معظمنا يعرف أن الجاذبية هي المسؤولة عن حركة الكواكب وسقوط الأشياء على الأرض، لكن قليل من يعرف ماهيتها وكيف تعمل وهل هي فعلا قوة كباقي القوى المعروفة وهل تجذب فقط الأجسام ذات الكتلة وهل تؤثر في أشياء أخرى لا مادية كالوقت مثلا؟
في هذا المقال سنتحدث عن نظرية ستمكننا من الإجابة عن هذه الأسئلة وعن كثير من أسئلة أخرى في الصدد نفسه، نظرية تعد من أكثر النظريات شهرة على الإطلاق؛ "النظرية العامة للنسبية "المعروفة بالنسبية العامة (Relativité générale)التي طور أسسها العالم العبقري ألبرت أينشتاين بين عامي 1907 و1915.
لم سقطت التفاحة ولم يسقط القمر؟
في القرن السابع عشر تساءل العالم الإنجليزي المشهور إسحاق نيوتن عن سبب سقوط التفاحة وعدم سقوط القمر؟ هذا التساؤل غير الاعتيادي مَهّد لإحدى أروع الاكتشافات في تاريخ العلم التي بسببها ذاع صيت هذا العبقري الإنجليزي.
لنفهم كيف أجاب عن هذا التساؤل الثوري، سنتخيل لو أن نيوتن أخد التفاحة وقام برميها إلى الأمام بقوة فمن المنطقي أنها ستقطع مسافة قبل أن تسقط على الأرض، وكلما كانت قوة رميها كبيرة كلما كانت المسافة التي تقطعها أطول. ما يحدث أن التفاحة عند رميها تتعرض لثلاث قوى؛ قوة تجذبها في اتجاه الأرض والقوة الدافعة التي تحركها إلى لأمام وقوة ناتجة عن احتكاكها بالهواء، هذه الأخيرة هي التي تؤدي إلى تناقص القوة الدافعة أمام القوة الجاذبة نحو الأرض ما يؤدي لسقوط التفاحة، ولو استطاع نيوتن رمي التفاحة بقوة كافية وافترضنا انعدام مقاومة الهواء، فإن التفاحة ستبقى في حالة دوران حول الأرض ولن تقع أبدا.
توصل نيوتن إلى استنتاج عميق؛ هو أن القمر في الحقيقة يسقط باستمرار مثل التفاحة، غير أن سقوطه ليس عموديا كسقوط التفاحة، والسبب هو سرعته الكبيرة (كيلومتر واحد في الثانية تقريبا)، فالقمر ينحدر نحو الأرض بتأثير القوة نفسها التي أسقطت التفاحة، لكن في الوقت نفسه يتحرك إلى الأمام بسرعة كبيرة مما يعوض ذلك الانحدار، وبما أن الأرض كروية الشكل فإنه يبقى في حالة سقوط دائم دون أن يصل إلى الأرض، وما دورانه في مداره كما نراه اليوم إلا نتيجة لهذا السقوط. هذا الاستنتاج وضع نيوتن على الطريق لتأسيس مبادئ الجاذبية؛ إذ طور بعد ذلك معادلات ثورية تصف سلوك هذه الأخيرة تم التحقق من صحتها تجريبيا ونستعملها إلى اليوم وبفضلها استطاع الإنسان الطيران والوصول إلى القمر.
في هذه الحالة يطرح السؤال: لمَ نحتاج إلى نظرية أخرى للجاذبية مادامت نظرية نيوتن صحيحة وفعالة؟ الجواب هو أن أينشتاين بعد نشره لنظريته الخاصة للنسبية اكتشف وجود عدم توافق (Incompatibilité) بين الجاذبية كما طرحها نيوتن ونظريته التي تحدثنا عنها في مقال سابق؛ حيث إن القانون الثالث لنيوتن يؤكد على أن كل جسمين في الفضاء يطبقان على بعضهما البعض قوة جذب تتعلق بكتلتهما وعكسيا بمربع المسافة الفاصلة بينهما وأن تأثير هذه القوة فوري (Instantané)، وهذه الفورية في انتشار هذه القوة هو المشكل.
الجاذبية الأينشتاينية
أينشتاين بقدرته الخارقة على التخيل ونبوغه الفيزيائي وبمساعدة صديقه الرياضياتي الهنغاري مارسيل كروسمان، غير تصورنا للجاذبية، فاعتبر أن الفضاء هو كنسيج مما أطلق عليه الزمكان (Espace-temps) ذا الأبعاد الأربعة (أبعاد المكان الثلاثة المعروفة إضافة إلى الوقت) وأن هذا الفضاء فاعل ومشترك في الظواهر الطبيعية التي تقع فيه وليس فقط فضاء تقع فيه كما اعتقد نيوتن، وببصيرة نافذة تمكن أينشتاين من فك لغز الجاذبية، فأكد أن الفضاء يتأثر بالكتل أيضا وليس فقط بسرعة تحرك الأشياء، وأن الكتل الكبيرة تخلق فيه انحناء، هذا يجعل الكتل الأصغر تسير عبر الانحناء في اتجاه المركز.
لنفهم بشكل أفضل هذا؛ لنتخيل أن الفضاء مثل ثوب مشدود، إن وضعنا عليه كرة حديدية صغيرة فإنها ستخلق فيه انحناءً بحيث إن أي شيء أصغر كتلة سنضعه على الثوب سيسقط عبر الانحناء ليصل إلى الكرة، فليست الكرة من يجذب الأشياء إليها إنما انحناء الثوب الذي تسببت فيه هو ما يجعل الأشياء تنحدر نحوها. الشيء نفسه يحدث في الفضاء، فالانحناء الذي شكلته الأرض بكتلتها في الزمكان هو ما يجعل الأشياء تسقط نحوها. إذن حسب النظرية الجديدة، فالأرض تسير حسب مسار في الانحناء الذي تسببت فيه الشمس في الفضاء، ولا تسقط فيه نظرا لسرعة تحركها (الأرض تسير بسرعة 30 كيلومترا في الثانية تقريبا).
كان يُعتقد أن الجاذبية تؤثر فقط على الكتل، لكن بفضل النظرية الجديدة تبين أنها تؤثر أيضا على الطاقة، فهي مثلا تتسبب في انحناء الضوء مع أنه طاقة فقط وليس له كتلة، وقد اقترح اينشتاين مراقبة الضوء القادم من نجوم بعيدة وقياس انحنائه عند مروره قرب جاذبية الشمس؛ وفعلا تم التحقق من هذا خلال كسوف 1919 من طرف عالم الفلك الإنجليزي آرثر إدنغتون الذي لاحظ أن نجوما معروفة تغيرت مواضعها.
أُثبت النسبية الخاصة أن الوقت يتباطأ عند التحرك بسرعات عالية، والنسبية العامة أثبتت أن الوقت أيضا يتأثر بالجاذبية. فكلما كانت هذه الأخيرة قوية كلما مرّ الوقت أبطأ، وكلما اقتربنا من مركز الأرض كلما تباطأ الوقت أكثر، فالوقت عند سطح البحر يمر أبطأ بالمقارنة بسطح جبل، وحتى بين الرأس والرجلين هناك فرق في مرور الوقت غير أنه صغير جدا، ولكن على ارتفاع 20 ألف كيلومتر، فإن الفرق في الوقت الذي يتسبب فيه الفرق في قوة الجاذبية يؤخذ بعين الاعتبار، فأكثر من 24 قمرا صناعيا تعمل على هذا الارتفاع (النظام العالمي لتحديد المواقعGPS ) وتقوم بتوفير معلومات عن أي موقع على الأرض ويتم أخد بعين الاعتبار مبادئ النسبية العامة في أنظمتها، فالثانية داخل القمر الصناعي لا تساوي الثانية على سطح الأرض.
تنبأ أينشتاين أيضا بوجود كتل في الفضاء أكبر بكثير من كتلة الشمس ينحني بسببها الزمكان بشكل كبير إلى درجة أن حتى الضوء لا يمر عبرها، ما يعني استحالة رؤيتها. لهذا سميت هذه الكتل بالثقوب السوداء، فلتتحول الأرض، مثلا، إلى ثقب أسود يجب ضغطها حتى يصبح حجمها بضع مليمترات مربعة وكتلتها كتلة الأرض الحالية نفسها، وقد تنتج بعض الظواهر في الفضاء تنبأ بها أيضا أينشتاين كالأمواج الثقالية وهي اهتزازات في الزمكان تنتشر بسرعة الضوء قد يحدثها تصادم ثقبين أسودين كالتي تم رصدها مؤخرا.
خاتمة
النسبية الخاصة أو المقيدة سميت كذلك لأنها تصلح فقط عند تحرك الأشياء في حركة مستقيمة، ولا تأخذ بعين الاعتبار الجاذبية، لهذا قام مؤسسها بتطويرها لتشمل هذه الأخيرة، ولذلك سميت النظرية الجديدة بالنظرية العامة للنسبية.
أربع قوى تعتبر هي المسؤولة عن كل ما يقع من ظواهر في الكون؛ قوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية والقوتان النوويتان الصغرى والكبرى، هذه القوى الثلاثة الأخيرة تعمل في الأبعاد الصغيرة جدا وهي أقوى بآلاف المرات من قوة الجاذبية، مما يطرح مشكل صعوبة دراسة الجاذبية عندما يتعلق الأمر بالأبعاد الصغيرة. وقد كان حلم أينشتاين تجميع النسبية العامة مع ميكانيكا الكم (Mécanique quantique)؛ أي تجميع القوى الأربعة في نظرية واحدة "نظرية كل شيء". ويبدو في الوقت الحاضر أن النظرية القريبة لتحقيق ذلك هي نظرية الأوتار الفائقة (Théorie des Supercordes).
صاحب البحث: رضوان إيركتو "متخصص في هندسة الأنظمة المعلوماتية"